Friday, October 2, 2009

صورة أخرى على أرض الواقع



و بعد دوران دائم استمر عامين كاملين, حامله خلالها ورقة خطت عليها طلب نقل من القرية التي عملت بها طوال العامين, كنت فيها مصدر لسد عجز مدرسي مادتي في كل القرى المجاورة لمدينتي لا لشئ إلا أنني لا وساطة لي سوى عملي الذي أقوم به بجد و نشاط ,استجاب التوجيه المسئول عن تحريك المدرسين خلال المدارس لمطلبي أخيرا وتم نقلي لمدرسة بالمدينة التي أحيا بها و قد أعطاني هذا شعور ضئيل بالارتياح لتخلصي من عناء السفر اليومي إلى القرية التي اعمل بها داخل عربات اقل ما توصف بها انها لا تصلح للاستعمال الآدمي و إنها يمكن إن تنقل ماشية لا بشر تذهب لقضاء مصالحها و توقف بهذا النقل النزيف الدائم لراتب شهري مستنزف قبل استلامه لضآلته الشديدة .



وصلت إلى المدرسة الجديدة لاستلام عملي و أول من التقيت به هو مدير المدرسة , شخص يدعو إلى الانقباض لمجرد رؤيته تبدو على وجهه ملامح الخبث و الدهاء دون ان يتكلم ,حاول من أول لقاء أن يبث داخلي كل مشاعر الخوف و الرهبة ليشعرني انه يقود المدرسة بيد من حديد, لكن ما نجح في أن يوصله إلى بجداره ليس الخوف و لكن الضيق و ربما الاشمئزاز أحيانا .






وتدريجيا توصلت الى أسباب الشعور الذي نما داخلي منذ اللحظة الأولى للقاءي مع هذا المدير و ذلك من خلال مراقبة ما يدور حولي من بعيد دون تفاعل حقيقي , فقد أفقدتني المدرسة السابقة أي رغبة في التفاعل وكنت كل ما ارغب فيه بصدق هو اداء عملى ثم الفرار سريعا الى بيتي و الاختباء داخله بعيدا عن عالم لا امتلك آلية التعامل معه او فهم طبيعته.


الطلاب هنا تتباين طبائعهم و أن كانت تتفق في شئ واحد هي الجرأة الممزوجة باللامبالاة وعدم الرغبة الحقيقية في التعلم, علاقتهم بالمعلمين شائكة يغلب عليها تجاوز جميع الحدود و الاستهانة بكل من حولهم وعلى الجانب الاخر يتقبل المعلمين هذا الأمر بسماجة الذليل الذي يجامل مالك قوته حتى لا يفر منه الى اخر حيث المنافسه قوية بين المعلمين على اجتذاب الطلبة و التأثير على عقولهم ليكونوا زبائن لهم في المجموعات المدرسية و الدروس الخصوصية ,مما يخلق مناخ غريب يصعب فهمه و تجد أمامك تشابه كبير بين علاقة المدير بالمعلمين و علاقة المعلمين بالطلبة , حيث يفتح المدير درج مكتبه لكل من يمتلك القدرة على المنح من العاملين بالمدرسة , وهؤلاء يكون لهم كل الحظوة عنده دائما , يجيئون و يذهبون من و الى المدرسة و قتما يشاؤنا بينما يظهر صالح العمل و مراعاة الضمير فجأة لمن يكون خارج هذه الدائرة المغلقة داخل المدرسة .


إبقاء على عهد أخذته على نفسي بأن اكتفي بدائرة خاصة بيضاء بعيدا عن عالم كل دوائره سوداء مظلمة لا امل فيها ظللت ارقب كل هذا من بعيد .


ربما احيانا كنت اشعر بمتعه شريرة و انا امسك القلم الأزرق لأخط الإجابات داخل ورقة الإجابة الخاصة بالطلبة في امتحانات نهاية العام و اعيد تصحيحها و تنجح الورقة بعدها متوحدة تماما معها و كانها هبطت من عالم اخر لا علاقة لي به و لا بصاحب هذه الورقة.


لم اعد احدث ضجيج على ما يحدث داخل اللجان فليفعلوا ما يريدون ليس بالضرورة ان اكن المكلفة الوحيدة بأنقاذ عالم هؤلاء الطلبة من الضياع .


أحيانا تجد نفسك و قد اصبحت ترس مكمل لدوائرهم العطنة تنسج خيوط قوية من المبررات


تمنحك تصالح ظاهري مع نفسك مستسلم تماما لكل ما يحدث حولك بل و مشارك فيه أيضا لكن هذا لا يستمر طويلا تجد ان هناك من يتسرب داخل عالمك الخيالي يفسده و يحرك ماءه الراكدة فتزكم انفك رائحة العطن الذي غرقت فيها و انت تسبح داخل سماء تبريراتك .


ذات يوم دخلت الفصل في حصة أضافية يطلق عليها (حصة احتياطي بدل مدرس زميل غائب )و حملت معي كتاب اعتدت حمله للقراءة فيه وقت فراغي بالمدرسة ,كتبت بعض الأسئلة على السبورة وتركت للطلبة حرية الاختيار فبدأ بعضهم بتسجيل إجابتهم في ورق و البعض الآخر تجمعوا ليكملوا حكايات قد بدأت بينهم قبل وصولي إلى الفصل و أخير من تجمعوا حولي احكي لهم ما في الكتاب و نطرح مع بعضنا الأسئلة و نحاول أن نجد لها حلول , ما الداعي في أن أقيدهم داخل مقاعدهم الصغيرة و أظل اصب على رؤوسهم معلومات , صماء لا روح فيها وفجأة أثناء اندماجنا في حلقاتنا المختلفة داخل الفصل بين الثرثرة المرحة و التحاور الجاد في المواضيع التي يضمها الكتاب الذي احمله و البعض الذي يحل الأسئلة الدراسية و يقبل ليسألني في بعض ما يستعصي عليه فهمه و أحاول شرحه له ,أفقنا على صوت دفع الباب من الخارج وإذا برجل غريب عن المدرسة وسط الفصل يسأل عن المعلمة و عندما أجبته بأني هي المعلمة الموجودة داخل الفصل , تملكته ثورة عارمة مبديا استياءه من الضوضاء التي بالفصل و هجم على الكتاب الذي في يدي وزادت ثورته عندما وجده كتاب عام لا صله له بالمنهج التعليمي الذي ادرسه و أخذه معه و هو خارج على أساس انه امسك في يده جسم الجريمة ,لم امتلك القدرة على الرد و لم يترك لي هو مجرد ترف المحاولة و خرج يكيل الإهانات و الاتهامات لكل من يقابله من العاملين بالمدرسة حتى جرت دماء الغضب في عروق احد المعلمين و انهال عليه بالضرب و السباب و كانت النتيجة انه أحال جميع المدرسة إلى التحقيق, فقد كان متابعة من وكالة الوزارة جاء لتصيد الأخطاء, فكل مخالفة قانونية نرتكبها تضاف إلى رصيد حوافزه المادية و تمت مجازاتنا جميعا ,هذا الجزاء الذي لم ينفذ لان احد المجازين معنا كان قريب لعضو مجلس شعب حمل تظلمنا و رفع عنا الجزاء !!!!


استمر عملي بهذه المدرسة عامين أخرين ترتعش فيه مياه حياتي بين ركود و كدر عفن لا نهاية له أنجبت فيها طفلي الأول و امتلأت حياتي بأحلام جديدة له هو فقط نسيت فيها تماما أني أعمل في مدرسة أو أني في يوم ما حلمت أن أكن هذا الرسول الذي يسعى لنشر رسالته على من حوله كما ظلوا طوال أعوام عمري الأولى يلقنونا هذا البيت الشعري عن المعلم الذي كاد أن يكون رسولا؟؟!!


في ختام هذين العامين ظهرت على السطح حادثة عم سعيد الشهيرة, هذا الرجل المتكور المرح الذي لا يكف عن الثرثرة و الشكوى الساخرة من امرأته و أولاده الذين لا يوقفوا أبدا نزيف احتياجاتهم اليومية من راتبه الذي لا يكفي حتى لأكل العيش إلحاف, يعطف عليه جميع العاملين رثاء لحاله و حبا لشخصيته المرحة المتفائلة و استعداده لتقديم أي كتب أو كراسات فائضة عنه لمن يطلب من المدرسة دون قيد أو شرط أو هكذا كنت أتخيل , نظرا لانعزالي التام و بعدي عن التفاصيل الدقيقة التي تدور بين معظم العاملين بالمدرسة و التي دائما تختبئ وراء تفاصيلهم العادية التي يراها الجميع.


عم سعيد يعمل أمين مخازن بالمدرسة مسئول عن استلام الكتب و تسليمها للطلبة مباشرة و إعادة الفائض منها إلى المخازن العامة ثانية و هكذا, في هذا العام فوجئنا بمدير المدرسة يدور على جميع العاملين بالمدرسة من معلمين و إداريين يطالبهم بدفع ما يجودون به لسد العجز المكتشف في عهدته, حيث انه قام ببيع الكتب المتبقية و لم يعيدها إلى المخازن العامة كما كان مفترض إن يحدث و صبغ كلماته بصبغة الخير الذي لا مصلحه له فيها , سوى إنقاذ عم سعيد من السجن الذي سيهدم بيته و يشرد أولاده المساكين الذين لا عائل لهم غيره , رفض عدد منا وكنت من بينهم المشاركة في تلك المهزلة ,فكل سارق لابد إن يأخذ عقابه و لكنه لم يتركنا حتى تنازلنا عن موقفنا بعد إن التبس علينا الأمر, فتفاصيل حياة عم سعيد شائكة حقا و تدعو للحيرة و جمع المبلغ و انتهت ألازمة و اكتشفنا في نهاية العام إن هذه ليست أول مرة تحدث و لكنها أول مرة يفضح أمرها و إننا كن ننقذ عم سعيد و المدير و الأمين العام للمخازن ألعامه و ربما مدير الإدارة التعليمية أيضا من سرقة اعتادوا القيام بها إلى أن جاءت لجنة جرد وزارية فكشفت المستور أو ربما لم تجد ما تقتسم معهم ففضحت أمرهم .


حملت ورقة جديدة بطلب جديد لمغادرة المدينة كلها و الهجرة مع أسرتي بعيدا إلى القاهرة حامله حلم جديد بحياة أفضل, ربما هناك أجد عالم جديد مختلف عن هذا العالم


و لكن هل وجدته حقا ؟؟!!