Sunday, April 21, 2013

هل حقا الشارع لنا ؟


كم مر من الوقت وهي واقفة أمام مرآتها تصفف شعرها, تطلق له العنان تارة، وتارة أخرى تجمعه بمشبك الشعر؛ وكأنها تواجه العالم بدون غطاء الرأس لأول مرة.

منذ أعوام قررت أن تخلع عنها حجابها لكنها لم تقوى على مواجهة مجتمع المدرسة التي تعمل بها بدونه، فاتخذت لنفسها شكلًا مزدوجًا حيث ترتدي غطاء الرأس صباحًا أثناء عملها ثم تخلعه عنها بمجرد ابتعادها عن المنطقة المحيطه به.

حاولت كثيرًا أن تبدأ بداية جديدة في مدرسة لا تعرف أحدًا بها، ولا أحد يعرفها، حتى تستطيع أن تتخلص من هذه الحالة تمامًا وتكن هي بلا تخفي أو تلون.

إلى أن جاءت هذه اللحظة.. عندما اجتازت بنجاح الاختبار الذي يؤهلها للعمل بمدارس اللغات التجريبية، ثم ارتضت العمل في إحدى المدارس التي تبعد عن مقر سكنها بكيلومترات لتكن هذه البداية التي انتظرتها طويلا..

جمعت شعرها على شكل ذيل حصان مكتفية بأنها ستبدأ صفحة جديدة من حياتها تظهر فيها بوجهها العاري بلا رتوش أومحاولات مستميتة للتخفي حتى يتقبله مجتمع المدرسة المغلق.

تنطلق مسرعة لتصل إلى المدرسة في الموعد المحدد لبداية اليوم الدراسي، يدفعها الى الأمام حالة من البشر والتفاؤل لا حدود لها.

اعتادت السير مسرعة وهي متجهة إلى المدرسة, على أمل أن تصل في الموعد المناسب قبل غلق دفتر الحضور و الانصراف، برغم أنها نادرًا ما تصل قبل غلقه, فرحلة الذهاب إلى المدرسة طويلة ومرهقة.

" كل شىء يهون مقابل أ ن يكن لي وجهًا واحدًا" هكذا كانت تحدث نفسها دائما كلما استبد بها الارهاق أوالضيق من السؤال الذي اعتاد كل من حولها إلقاءه في وجهها بحثًا عن اسم يحدد لهم هويتها، حيث تعمدت ألا تذكر اسم " محمد" القابع في نهاية اسمها, , لم تكن تجد معنى لهذا الاصرار على معرفة هويتها الدينية.

لم يضايقها كثيرًا أنهم تعاملوا معها على أنها مسيحية، فقد كانت ترى أن الدين لله, لم تتخيل للحظة - بساذجتها المعتادة- أن هذا تصنيف لها في المدرسة والشارع يضعها في نفس الإطار الذي يوضع فيه المسيحيين, حتى جاء هذا اليوم الذي أطاح بكل اوهامها..

اعترض صبي متشرد طريقها أثناء سيرها المتعجل ملقيًا في أذنها بعض كلمات فجة تحمل في طياتها ايماءات جنسية.

 ترددت للحظات بين أن تكمل طريقها أو أن تتوقف لتلقنه درسًا حتى لا يكرر فعلته هذه مرة أخرى معها أو مع غيرها من النساء اللائي يعبرن من هذا الطريق..

تعالت داخل عقلها عبارات  مثل: " الشارع لنا" و" حقها في أن تسير آمنة في الطريق دون أن يغتصب هذا الحق هؤلاء الصبية" مقررة أن ترجع إليه وتواجهه دون أن تضع في اعتبارها ذلك التصنيف الذي وضعت فيه منذ بداية ولوجها إلى هذه المنطقة، فلم يكن موجود أصلا في معجمها العقلي حتى ذلك اليوم واستدارت متجهة إليه لتلقنه درسًا لن ينساه، أو هكذا خيل لها.

قابل الصبي مواجهتها له بعنف ملحوظ، ولم يعبأ بجرأتها أو بالاتهامات التي واجهته بها, مدعيًا أنها تتهمه بالباطل.

تجمع الناس في محاولة لفض النزاع، طالبين منها أن تحترم نفسها وتسير في طريقها تاركة أمر تأديبه لأبيه.. هذا العملاق الذي وقف بينها و بين الصبي محاولًا إنهاء الموقف دون أي رد اعتبار لها ولكم الإهانات التي ألقاها ذلك الصبي في وجهها.

أفزعها التجمهر العدائي الذي لم تستطع أن تستوعبه في لحظتها وأصابها بالارتباك، فقررت إنهاء الموقف سريعًا.

ألقت في وجه الجمع المحتشد بعض العبارت الغاضبة وهي تتحرك مسرعة هربًا من تلك المعركة الغير متكافئة بينها وبين رجال الشارع كلهم تقريبا.

أثناء سيرها المتعجل تلقفتها امرأة سمراء كانت تجلس أمام دكان بقالة في استكانه محببة, دعتها المرأة بالدخول إلى الدكان كي تشرب بعض الماء وهي تسألها بلكنه صعيدية أعادة لها ذكريات طفولتها في الصعيد حيث كانت تحيا بلا تصنيفات في براءة ظلت تحفظها داخلها غير عابئه بكل ما يحدث من تحولات خارج عالمها المغلق على ذاتها: انت منين يا بنتي؟

" أنا بشتغل مدرسة في المدرسة  دي" اجابتها في إعياء مشيره الى المدرسة.

قالت لها المرأة بنفس اللكنة الصعيدية التي اعادت لها بعضا من هدوئها:

" متخافيش إحنا مسيحيات زي بعض، خليكي هنا لحد م الجو يهدى وبعدين  روحي بسرعة.. دول ناس مجرمين يا بنتي , خدي اشربي المية دي علشان تهدي"

كانت علامات الفزع البادية على وجه المرأة تزيح حالة الهدوء التي صنعتها لكنتها الصعيدية المحببة تدرييجيا ليحل محلها غضب وحنق شديدين, يرسم خطوط الحقيقة داخل عقلها.

 هذه الجرأة الواضحة من الصبي والتجمهر العنيف من رجال الشارع ليس سببه مواجهتها له بفعلته فقط.. بل هي تلك العبارة التي ألقتها في وجهها تلك المرأة " إحنا مسيحيات زي بعض".

بدأ سؤال غاضب يعصف بها تريد أن تلقيه في وجه تلك المرأة:

أين كنت عندما كنت أواجههم وحدي.. ولم لم تأتي لتقفي إلى جواري؟

لكنها آثرت أن تلقي ببعض عبارات الشكر, وأن تكمل طريقها بنفس السرعة الأولى لتنتهي من هذا الموقف الذي أصبح ثقيلًاعلى قلبها لدرجة يصعب معها استنشاق بعض من الهواء.

أبى القدر إلا أن يكمل لها أبعاد الصورة الشائكة في هذا العالم الذي تحيا داخله بجسدها فقط مستغرقه داخل احلامها الوردية, بظهور تلك المرأة التي تختبئ داخل عربتها مستوقفه إياها:

" تعالي هوصلك لأبعد مكان عن المنطقة دي"

توقفت شاردة للحظات، حيث كان التعب والإرهاق قد استبد بكل كيانها فلم تقاوم كثيرًا وركبت معها لتواجهها الأخرى بسؤالها:

" هو كان في إيه؟"

ألقت عليها بعض عبارات مقتضبة عن تفاصيل ما حدث وهي ترقب ملامحها التي تتقلص وخطوط  الخوف التي تجد طريقها على صفحة وجهها المليح، مما زاد من ضيقها وحنقها أكثر ورغبتها في الهروب سريعًا من هذا المشهد الذي يهدم حلمها تمامًا.. بل يقتلعه من جذوره..

فبدأت في شكر المرأة وهي تخبرها أنها أصبحت أحسن الآن، وتريد أن تترجل من السيارة لتستكمل طريقها لارتبطها بمواعيد عمل وقد تأخرت عليها..

لكن المرأة أصرت على أن توصلها إلى أقرب مكان لموعدها, مخرجه لفافة من " روشتات" حصلت عليها من إحدي المستشفيات، حيث كانت تعالج من أثر أزمة قلبية أصابتها نتيجة لتعرضها لموقف مماثل، ناصحةً إياها بأن تسير في طريقها متجاهلة تلك المحاولات القبيحة للتحرش بها, فهم وحوش كاسرة تسير على الأرض وليس أمامهن طريق سوى الاختباء بعيدًا عنهم حتى يستطعن الحياة في أمان.

عند هذه النقطة فقدت قدرتها على التحمل ولم يعد أمامها سوى أحدى سبيلين: إما النزول فورًا، أو إلقاء غضبها المكبوت داخلها في وجه تلك المرأة الفزعة.  وقد اختارت الحل الأول، مصرة على أن تترجل من السيارة. فقد دنت من أقرب مكان يمكن أن يوصلها إلى موعدها..

توقفت المرأة وهي تودعها وتلقي عليها بعض من النصائح الخانعة المرتعبة.

استمرت في فرارها بعيدًا, مطلقة لقدميها العنان لتسير باقصى طاقتها يختلط داخل عقلها الصور وتزاحم بعضها بعض في محاولة يائسة علها تجد لصورتها مكان وسط الزحام.