Sunday, February 21, 2010

ليلى




في كل صباح تستيقظ ليلى  بتثاقل شديد تتلكأ في سريرها غير راغبة في النهوض من أغطيته الدافئة , تصر أمها على إيقاظها
استيقظي يا ليلى سيفوت موعد المدرسة .
تحدث ليلي نفسها وماذا في ذلك ليته يفوت , تبدأ في التأوه بصوت عالي مدعيه المرض
يعلو صوت أمها تمهيد لمرحلة الصراخ الصباحية التي تمنحها إياه كل يوم
قلت لك استيقظي ليس بك شئ و انا أعلم هذا جيدا
تهز ليلى رأسها في ضيق , تعلم جيدا أنه ليس هناك جدوى من ادعاء المرض فأمها تعلم جيدا أنها ليست مريضة و إنما تتعلل بالمرض لتتغيب من المدرسة
تنهض من سريرها مقطبة الجبين و شعور عالي بالضيق و الانقباض يحوطها
ترتدي ملابسها في بطء تبدأ أمها في عزف سيمفونية صراخها اليومي , اريدك ان تكوني طالبه متفوقة وناجحة لتصبحي طبيبة أو مهندسة يوما ما أضعت حياتي عندما لم أكمل تعليمي و لا اريد لك نفس المصير لما لا تساعديني على تحقيق هذا الحلم
تبدأ ليلى في حديثها الصامت مع نفسها الذي لا يخرج منه سوى همهمة لا تستطيع أمها تفسيرها مما يزيد من حدة صراخها العصبي
تكمل ليلى ارتداء ملابسها بسرعة حامله حقيبتها على ظهرها محملة بأطنان من الكتب و الكراسات لا حصر لها و تأخذ مصروفها من أمها في صمت مغلف بحاله من الغضب المكبوت
يعلو نداء صاحباتها  من الشارع فيدب في جسدها حاله من النشاط المفاجئ و تبدأ ألان في التحرك بسرعة متحمسة للنزول يصاحب ذلك استمرار  حالة الصراخ الغاضب الذي بدأته أمها  : ايوه طبعا الآن تتحركي بحماس , والله أصحابك هؤلاء سوف يضيعوا مستقبلك للأبد
تحرك ليلى رأسها في ضيق و تسرع الخطى لتفر من صراخ أمها , محاولة الحصول على المتعة الوحيدة من هذه الرحلة اليومية  وهي لقاء الأصدقاء و الدخول في دائرة من الثرثرة و اللهو الممتع الذي يرى  كل من حولها انه مضيعة للوقت لا فائدة منه.
 تعود إلى همهمتها :ألا يمل هؤلاء الكبار من الصراخ و اللقاء النصائح طوال اليوم بلا توقف و كأنهم امتلكوا وحدهم مفاتيح الطريق إلى النجاح و ما عداهم فشل و مضيعة للوقت , متى يهبطوا من أبراجهم ليروا ما نراه و يسمعوا ما نريده نحن ليس ما يريدونه هم لنا  .
تلتقي أخيرا  بصديقاتها في الشارع يتصافحن في مرح صاخب يبدأن في السير إلى المدرسة
اقتربت ليلى مع صاحباتها  من باب المدرسة,  حيث بدأت تلقي بظلها الثقيل على حديثهن المرح فيتخلله الصمت تدريجيا كلما أقتربتا من بوابة المدرسة و الولوج خلاله الى الداخل , يرقبنا غلق الباب بصمت غير مبرر متوجهين حيث يقف الطابور الصباحي الذي يسبق بداية اليوم الدراسي.
  بدأ الطابور، وقفت ليلي إلى جوار صاحباتها في صف غير منتظم وسط صرخات مدرسة الفصل التي تحاول وقف سيل ثرثرتهن الذي لا ينتهي و تنظيم الصف  ,حرارة الشمس الساخنة  تلهب رؤوسهن و تطن آذانهن من مواضيع إذاعية مفروضة عليهن , لا تثير داخلهن  سوى الشعور بالملل و عدم الرغبة في المتابعة.
تميل ليلى على أحدى صديقاتها وتبدأ معها في حديث خاص عن أحدث كليب لمغني شاب مشهور  رأته بالأمس في التليفزيون أثناء انشغال أمها عنها بأعداد طعام العشاء و تخبرها صديقتها عن صور أحد النجوم الذي يعشقنه في مجلة اشترتها من مصروفها بالأمس, يندمجا في حديث ممتع يتشعب في كثير مما يشغل بالهن هذه الأيام و ربما دخلتا في دائرة من الأحلام عن ما يردنا أن يفعلنه بعد أن يتحررن من سطوة البيت الذي يضمهن و سطوة تلك المدرسة البغيضة.
 تنشغل هي و صديقاتها بالتحدث مع بعضهن في أمورهن الخاصة التي لا يحاول احد ممن حولهن سماعها او الاهتمام بها, و فجأة.. تلمحها مديرة المدرسة التي تقف على منصة الإذاعة المدرسية ترقب كل من في المدرسة من طالبات و مدرسين بعين غاضبة دائما ,و في لحظة خاطفة  بسرعة البرق تنقض على ليلى جاذبه إياه من ذراعها لتحملها إلى أعلى مكان في الطابور فارضة  عليها رفع يديها إلى أعلى و وجهها ناحية الحائط  ,همهمة مخنوقة تبدأ في الانتقال بسرعة بين صفوف الفتيات يعقبها صراخ المديرة محمل برياح الوعيد بأن يكون مصيرهن أشد وطأة من مصير تلك الفتاه لكن صديقات ليلى لا يتوقفن عن الاعتراض بصوت يصنع ضجيج خافت لا تستطيع أن تتحمله تلك المشتعلة غضبا , فتصرف الطابور و تطلب من كل الطالبات الصعود إلى فصولهن ماعدا فصل ليلى.
 تظل طالبات فصل ليلى واقفات,  رافعات أيديهن إلى أعلى طوال اليوم الدراسي تحت وطأة الإحساس بالضعف , الإهانة , الغضب المقهور , و تظل ليلى رافعة يديها وجهه للحائط  يحاوطها نفس الشعور
بينما حرارة الشمس الحارقة  الموجعة تذيب كل شئ الحلم , الروح , بريق الحياة المشتعل داخل القلوب .

Wednesday, February 3, 2010



يوم مشرق و فصل مظلم
في صباح مشرق  يصحبه سماء صافية على غير عادة قاهرتنا المحاصرة بغيومها السوداء دائما, تملكتني رغبة السير بتمهل و الاستمتاع بهذا الطقس الشتوي الممتع , لكني وسط تأملاتي الهادئة عادت الى ذكرى  دفتر الحضور و الانصراف ,  فاندفعت بخطى مسرعة  لألحق  به قبل أن يرفع وأجدني  داخل دوامة الافتكاسه الإدارية الخاصة بمعلمي الفترة المسائية في المدارس الحكومية حيث اننا يطبق علينا قانون عمل مختلف عن قانون العمل المتعارف علية  و هو أن الموظف من حقه ان يتأخر عن ميعاد العمل مده قدرها 120 دقيقة طوال الشهر , أم نحن فليس من حقنا التأخير و لا حتى عشر دقائق طالما نذهب إلى المدرسة الساعة الواحدة ظهرا .
اجتزت بوابة المدرسة وأنا مازلت في دائرة  اندفعي كطلقة مصوبة الى هدف محدد , فجأة  قطع مسيرتي المقدسة صوت ينادي : يا ابلة , يا أبلة , التفت بسرعة ناحية الصوت لأجد : امرأة ترتدي الزى الأسود المسمى بالإسدال, الذي أصبح الزى الرسمي لمعظم نساء هذه المنطقة, حتى مدرسات المدرسة التي أعمل بها , يقف إلى جوارها فتاة صغيرة الحجم , يبدو عليها الإعياء و الشحوب .
حاولت بمجرد التفاتي إليها أن تبدأ في سرد مشكلتها و لكني استمهلتها بضع ثواني لألحق بالدفتر و أعود إليها , نظرت إلي المرأة لا تعي مما أقول شئ ,  لكنها لم يكن أمامها شئ سوى  الاستسلام لمطلبي, أكملت  انطلقي نحو هدفي السامي,  لأجد وكيلة المدرسة  توشك أن تغلق الدفتر,  فما كان مني إلا أني وضعت يدي داخل صفحات الدفتر لمنع غلقه ,  مع إضافة ابتسامه بلهاء على وجهي  و اختطاف  القلم بحركة مباغتة  من بين دفتي الدفتر  , مسجلة أسمي في الخانة المخصصة له ,  متجاهله ضيقها التي حاولت إبداءه بوضوح , مديرة  ظهري لها و كأني لا أرى أو اسمع شئ مما يبدو عليها او تقوله.  و عدت أخطو بعض خطوات مسرعة بحثا  عن  المرأة هذه المرة   لأفهم منها ماذا تريد ؟
  وقد وجدتها كما تركتها  ما تزال غارقة في حيرتها و بحثها فتوجهت اليها بالسؤال.
ايوه يا ستى ماذا تريدين ؟
اندفعت تحكي بسرعة عن مشكلتها و كأنها تخشى أن أتبخر من أمامها قبل أن تكمل عرض مأساتها : ابنتي لم تأتي المدرسة منذ بدأ العام الدراسي , فقد كنت خائفة عليها من الإصابة بوباء أنفلونزا الخنازير و رغم حرصي وخوفي أصيبت بالمرض لان الفيروس موجود في الهواء كما قال لي الطبيب , قد عولجت و شفيت الحمد لله لكنها لم تمتحن أمتحاثات الشهر و ليس لها درجات لدي مدرسي الفصل المسجل به أسمها  و حاضرتك يا أبلة واحدة منهم ومش عارفة أعمل أية؟
ابتسمت لها محاولة أن أهدئ من روعها  و أخبرتها أنني سوف أمتحن الطالبات اليوم و ما عليها إلا أن تترك ابنتها تصعد إلى الفصل و سوف أقوم  بأخبار  باقي المدرسين بمشكلة أبنتها  .
نظرت لي نظرة يشوبها الشك و كأنها لا تثق في هذا الجنس الغريب الذي يحمل لقب مدرس و تريد ان تطمئن بنفسها .
عند هذه اللحظة اصطحبتها هي و ابنتها في رحلة بحث عن باقي المدرسين لتعرض عليهم مشكلتها بنفسها و يطمئن قلبها , و أخيرا اقتنعت بترك ابنتها في المدرسة هذا اليوم ليجرى لها المدرسين الامتحانات الشهرية   الخاصة بمادة كل واحد منهم.
صعدت الى الفصل وجدت تلك الفتاة التي أصيبت بالوباء رغم أنها تحصنت من الإصابة به داخل بيتها , فهاجمها من الهواء العليل المحيط بنا جميعا , بدأت بكتابة بعض الأسئلة على السبورة و قراءتها عدت مرات حتى تتمكن الطالبات من حلها , ثم جلست على الكرسي الذي انعموا علينا به داخل الفصل  هذا العام بعد سنين طويلة من العمل لا نجد مكان سوى تسلق مساند المقاعد الخاصة بالطالبات , جلست أتابع الطالبات و أحاول منع حالات الغش أحيانا و أحيانا أخرى أتجاهل محاولاتهن وكأني لا أراهن.
 مالت شمس اليوم المشرق إلى الغروب , فجأة على صوت  دى جى أستقر على الرصيف المواجه للمدرسة بالشارع  بأغاني صاخبة لإحياء حفلة افتتاح محل اى حاجة ب أتنين جنيه و نص .

  مع دخول المساء و غياب ضوء النهار تماما , صاحب صوت الدي جي ضوء قوي لعدد لا حصر له من المصابيح الكهربية الملونة التي تضيء و تظلم كعادة مصابيح الأفراح في المكان و فجأة و بدون مقدمات انقطعت الكهرباء عن المدرسة كلها و غرقت في ظلام دامس مع تعالي صوت الأغنية ( و بحب الناس الرايقة الى بتضحك على طول) تعالى صراخ الفتيات من كل مكان في المدرسة  فزعا , إلا فصلي الذي أشرف عليه فقد انتشرت فيه حالة من السكون تدعو إلى الريبة , يصحبها بقع ضوئية ضعيفة ,  أثارت فضولي فبدأت في التوجه إليهن متجاهله الصراخ و الغناء و الظلام الذي يغطي المدرسة,  لأجد الطالبات الرائقات وقد تجمعنا في حلقة تتصدرها الفتاة الشاحبة التي أختارها الوباء دون غيرها   على  ضوء  كشافات الموبيلات التي يحملنها رغم انف قرارات الإدارة المدرسية التي منعت تواجدها مع الطالبات , يسلطنها على ورق الامتحان و قد تجمعنا في حلقات ,  لينقلن الإجابة من بعضهن البعض , ظللت أحدق فيهن لا أدري ما ذا يمكن أن يكون رد فعلي على ما يفعلنه الآن ؟  
 بدأ شبح ابتسامة ساخرة يعلو شفتي , تزداد اتساعا , تحولت إلى ضحكات عالية و هن غافلات عني تماما .
تراقصت أمام عيني وأنا أتأمل استغراقهن في ما يفعلنه  ذكرى  ما سبق لي دراسته من سنوات عن أهمية عملية التعلم التعاوني كطريقه جديدة وأساسيه من طرق التعلم الحديث وكيف قامت عبقرية طالباتي الصغيرات بتحوير التعلم التعاوني إلى الغش التعاوني .