أثناء قراءة كتاب " انهم يصنعون البشر " أستوقفتني تلك العبارة
" المدرسة بيئة محكمة يمكن من خلالها التحكم في السلوك و تعديله " .
مرورا بالفكرة الاساسية التي يناقشها الكتاب الخاصة بمهندسي السلوك البشري
, لفت أنتباهي هذا التساؤل : هل السلوك المعدل هو أن يكون المتعلم في حاله من
الهدوء التام و ذلك للاستماع الى المعلم و
كأنه المصدر الوحيد للمعلومه في هذا العالم دون تفاعل معه أو إحداث أي نوع من أنواع
النشاط الحركي ؟
أعاد هذا التساؤل إلي ذكرى الأحساس بالبهجة و أنا أتجول في أروقة تلك المدرسة التي زرتها بولاية ميرلاند
بالولايات المتحده منذ اكثر من عشرة سنوات , يطبق فيها فكرة "التعليم الحر"
حيث يتلقى فيها الطفل المعلومة من خلال إستكشاف البيئة المحيطة به هذا بالاضافة
الى التعلم عن طريق التجربة و الخطأ .
لا تعتمد هذه المدرسة على فصل مغلق,
يظل الطفل جامد فيه لا يفعل شئ سوى الاستماع لكل ما يقلي به المعلم داخل رأسه ,ثم حفظه و ترديده دون ان يكون له أي دور يذكر
في العملية التعليمية .
و أستوقفتني النظرة التي تطل من أعين المتعلمين في هذه المدرسة و ما بها من
حماس و شغف للمعرفة عن طريق التوصل لإجابات على الاسئلة التي يطرحها عليهم المعلم
وإشرافه على محاولتهم للتوصل اليها بأنفسهم, مستعيده تلك النظرة الكئيبة الضجره
التي تطل من أعين المتعلمين في مدارسنا و لسان حالهم يقول "أمتى الحصة دي
تخلص "
و السؤال الان : ماذا يحدث في مدارسنا ؟ هل هناك خطة محكمة لتعديل سلوك
المتعلم ليكون جامد ,هادئ يتلقى المعلومه في صمت أم ماذا؟
نظره سريعه الى حال مدارسنا برغم تعددها و تفاوتها الطبقي و الاهمال
المتعمد للمدارس الحكومية التي تستهدف الطبقه الفقيرة من المجتمع , ستجد أنه اذا
كانت هناك خطة تستهدف أطفالنا حقا , فلن تكون سوى خلق جيل لا يمتلك أي مهارة من
مهارات الابداع و التفكير , أحادي النظرة لا يعرف أكثر من الوريقات التي يتعاطاها
ليلقي بها في ورقة الامتحان و يخرج بعدها خاوي الوفاض لا يفكر في شئ مما درس او
حتى كتب في الامتحان , هذا طبعا بأستثناء عدد لا يكمل أصابع اليد الواحده من
المدارس التي يدفع لها أولياء الامور مبالغ فلكيه ليتعلم بها أطفالهم , نستبعدها من حسابنا لأنها
تستهدف نسبه لا تصل الى 1% من المتعلمين .
التطور الطبيعي للعملية التعليمية
التي أعتمدت منذ سنوات طويلة على الشكل
فقط دون الاهتمام بالمحتوى التعليمي , بالاضافة الى مناهج مكدسة و غير مستقرة
تتغير بأستمرار مع الاحتفاظ بتكدسها و عدم الاهتمام بترتيب المعلومة التي تقدم بها
و تفوقها في التجاهل التام لإحتياجات
المتعلم هي حالة الفوضى المتفشية في المدارس الان المتمثلة في لامبالاة المتعلم و
عدم أهتمامه بكل ما يدور داخل أسوار المدرسة العالية , تلك الحالة التي لم يعد
يجدي معها أساليب التهديد و العقاب المتبعه منذ قديم الازل .
و يضاف الى ذلك الاتهام الدائم للمتعلم بالفشل و إنعدام الاخلاق دون أي
محاولة لدراسة الاسباب التي أدت به الى هذه الحالة ؟
و من نتائج هذا التدهور و التدني الملحوظ في مستوى المتعلم إنحصار إهتمامه في اجتياز الامتحانات بنجاح بأي
شكل (تحول الغش داخل اللجان الى حق لا يجوز الاعتراض عليه) للحصول على شهاده يرضي
بها أسرته و مجتمعه , يعني "يريح دماغه منهم " و بعد كده يعمل الي هو
عاوزه أو ما يعملش اي حاجه , يترك هذا الامر للفروق الفردية بين البشر (الامكانيات
الاقتصادية و الاجتماعية لكل أسرة) دون تتدخل ايجابي من المؤسسة التعليمية بكل
عناصرها مع تخلي الدولة عن دورها تجاه تحديد أحتياجاتها من العلمية التعليمية و
دعمها .
كل هذا يعود بنا الى عبارة المدرسة "بيئة محكمه " لنسأل هل ما
يدور في مدارسنا الان يعبر عن خطة محكمه لتفعيل مبدأ الفوضى الخلاقة أم انه نتاج اللاخطة من الاساس ؟